فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (18):

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}
{بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب بل عن إرادة الاتخاذ كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وتخصيص هذا الشأن من بين سائر شؤونه تعالى بالذكر للتخلص لما سيأتي إن شاء الله تعالى من الوعيد، وعن مجاهد أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وقيل الحق الحجة والباطل شبههم ووصفهم الله تعالى بغير صفاته من الولد وغيره، والعموم هو الأولى، وأصل القذف الرمي البعيد كما قال الراغب وهو مستلزم لصلابة الرمي وقد استعير للإيراد أي نورد الحق على الباطل.
{فَيَدْمَغُهُ} أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكمة، وأصل الدمغ كسر الشيء الرخو الأجوف وقد استعير للمحق.
وجوز أن يكون هناك تمثيل لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه برمي جرم صلب على رأس دماغه رخو ليشقه، وفيه إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل وأن جانب الأول باق والثاني فان، وجوز أيضًا أن يكون استعارة مكنية بتشبيه الحق بشيء صلب يجيء من مكان عال والباطل بجرم رخو أجوف سافل، ولعل القول بالتمثيل أمثل، وقرأ عيسى ابن عمر {فَيَدْمَغُهُ} بالنصب، وضعف بأن ما بعد الفاء إنما ينتصب بإضمار أن لا بالفاء خلافًا للكوفيين في جواب الأشياء الستة وما هنا ليس منها ولم ير مثله إلا في الشعر كقوله:
سأترك منزلي لبني تميم ** وألحق بالحجاز فاستريحا

على أنه قد قيل في هذا إن استريحا ليس منصوبًا بل مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوف عليه بالألف، ووجه بأن النصب في جواب المضارع المستقيل وهو يشبه التمني في الترقب، ولا يخفى أن المعنى في الآية ليس على خصوص المستقبل، وقد قالوا إن هذا التوجيه في البيت ضعيف فيكون ما في الآية أضعف منه مأخذًا والعطف على هذه القراءة على الحق عند أبي البقاء، والمعنى بل نقذف بالحق فندمغه على الباطل أي نرمي بالحق فإبطاله به.
وذكر بعض الأفاضل أنه لو جعل من قبيل علفتها تبنًا وماءً باردًا صح، واستظهر أن العطف على المعنى أي نفعل بالقذف فالدمغ، وقرئ {فَيَدْمَغُهُ} بضم الميم والغين {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل.
{وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ} وعيد لقريش أو لجميع الكفار من العرب بأن لهم أيضًا مثل ما لأولئك من العذاب والعقاب، وما تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو حذوف هو حال من الويل على مذهب بعضهم أو من ضميره المستتر في الخبر، وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي ومستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له تعالى بما لا يليق بشأنه الجليل تعالى شأنه أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد ونحوه أو كائنًا مما تصفونه عز وجل به، وكون الخطاب لمن سمعت مما لا خفاء فيه ولا بعد، وأبعد كل البعد من قال: إنه خطاب لأهل القرى على طريق الالتفات من الغيبة في قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15] إليه.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)}
{وَلَهُ مَن فِي السموات والأرض} استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمه بالغة ونظام كامل وأنه سبحانه يحق الحق ويزهق الباطل، وقيل هو عديل لقوله تعالى: {وَلَكُمُ الويل} وهو كما ترى أي وله تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقًا وملكًا وتدبيرًا وتصرفًا وإحياءً وإماتة وتعذيبًا وإثابة من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ما استقلالًا واستتباعًا، وكأنه أريد هنا إظهار مزيد العظمة فجيء بالسموات جميعًا على معنى له كل من هو في واحدة واحدة من السموات ولم يرد فيما مر سوى بيان اشتمال هذا السقف المشاهد والفراش الممهد وما استقر بينهما على الحكم التي لا تحصى فلذا جيء بالسماء بصيغة الإفراد دون الجمع.
وفي الاتقان حيث يراد بالعدد يؤتى بالسماء مجموعة وحيث يراد الجهة يؤتى بها مفردة {وَمَنْ عِندَهُ} وهم الملائكة مطلقًا عليهم السلام على ما روي عن قتادة وغيره، والمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان وقد شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ دال على المشبه به فهناك استعارة مصرحة.
وقيل عبر عنهم بذلك تنزيلًا لهم لكرامتهم عليه عز وجل منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل، والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبراء {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يكلون ولا يتعبون يقال حسر البعير واستحسر كل وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم ويقال أيضًا أحسرته بالهمز.
والظاهر أن الاستحسار حيث لا طلب كما هنا أبلغ من الحسور فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، والمراد من الاتحاد بينهما الدال عليه كلامهم الاتحاد في أصل المعنى، والتعبير به للتنبيه على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون وليس لنفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] على أحد الأوجه المشهورة فيه.
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون ذلك معطوفًا على من الأولى وأمر تفسيره بالملائكة عليهم السلام على حاله، وذكر أن هذا العطف لكون المعطوف أخص من المعطوف عليه في نفس الأمر كالعطف في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} [القدر: 4] في الدلالة على رفعة شأن المعطوف وتعظيمه حيث أفرد بالذكر مع اندراجه في عموم ما قبله، وقيل إنما أفرد لأنه أعم من وجه فإن من في الأرض يشمل البشر ونحوهم وهو يشمل الحافين بالعرش دونه، وجوز أن يراد بمن عنده نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التبوء والاستقرار في السماء والأرض، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التبوء والاستقرار في السماء والأرض، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام، وأنت تعلم أن جمهور أهل الإسلام لا يقولون بتجرد شيء من الممكنات، والمشهور عن القائلين به القول بتجرد الملائكة مطلقًا لا بتجرد بعض دون بعض.
ثم إن أبا البقاء جوز في قوله تعالى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} على هذا الوجه أن يكون حالًا من الأولى والثانية على قول من رفع بالظرف أو من الضمير في الظرف الذي هو الخبر أو من الضمير في {عِندَهُ} ويتعين أحد الأخيرين عند من يعرب من مبتدأ ولا يجوز مجيء الحال من المبتدأ ولا يخفى.
وجوز بعض الأفاضل أن تكون الجملة مستأنفة والأظهر جعلها خبرًا لمن عنده، وفي بعض أوجه الحالية ما لا يخفى وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (20):

{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)}
{لاَ يَفْتُرُونَ} في موضع الحال من مضير {يَسْبَحُونَ} على تقديري الاستئناف والحالية، وجوز على تقدير الحالية أن يكون هذا حالًا من ضمير {لا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أيضًا، ولا يجوز على تقدير الاستئناف كونه حالًا منه للفصل. وجوز أن يكون استئنافًا والمعنى ينزهون الله تعالى ويعظمونه ويمجدونه في كل الأوقات لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلًا بفراغ أو شغل آخر، واستشكل كون الملائكة مطلقًا كذلك مع أن منهم رسلًا يبلغون الرسالة ولا يتأتى التسبيح حال التبليغ ومنهم من يلعن الكفرة كما ورد في آية أخرى. وقد سأل عبد الله بن الحرث بن نوفل كعبًا عن ذلك كما أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة. والبيهقي في الشعب فأجاب بأنه جعل لهم التسبيح كالتنفس فلا يمنع عن التكلم بشيء آخر. وتعقب بأن فيه بعدًا، وقيل إن الله تعالى خلق لهم ألسنة فيسبحون ببعض ويبلغون مثلًا ببعض آخر، وقيل تبليغهم ولعنهم الكفرة تسبيح معنى.
وقال الخفاجي: الظاهر أنه إن لم يحمل على بعضهم فالمراد به المبالغة كما يقال فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك انتهى. ولا يخفى حسنه، ويجوز أن يقال: إن هذا التسبيح كالحضور والذكر القلبي الذي يحصل لكثير من السالكين وذلك مما يجتمع مع التبليغ وغيره من الأعمال الظاهرة، ثم إن كون الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يستلزم أن يكون عندهم في السماء ليل ونهار لأن المراد إفادة دوامهم على التسبيح على الوجه المتعارف وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (21):

{أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}
{أَمِ اتخذوا ءالِهَةً} حكاية لجناية أخرى من جنايات أولئك الكفرة هي أعظم من جناية طعنهم في النبوة، وأم هي المنقطعة وتقدر ببل الإضرابية والهمزة الإنكارية وهي لإنكار الوقوع لا إنكار الواقع، وقوله تعالى: {مّنَ الأرض} متعلق باتخذوا ومن ابتدائية على معنى أن اتخاذهم إياها مبتدأ من أجزاء الأرض كالحجارة وأنواع المعادن ويجوز كونها تبعيضية.
وقال أبو البقاء وغيره: يجوز أن تكون متعلقة حذوف وقع صفة لآلهة أي آلهة كائنة من جنس الأرض، وأيًا ما كان فالمراد التحقير لا التخصيص، ومن جوزه التزم تخصيص الإنكار بالشديد وهو غير سديد. وقوله تعالى: {هُمْ يُنشِرُونَ} أي يبعثون الموتى صفة لآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لا نفس الاتخاذ فإنه واقع لا محالة أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوه آلهة عزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحًا لكنهم حيث ادعوا لها الإلهية فكأنهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الإلهية حتمًا ومعنى التخصيص في تقديم الضمير ما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار الموجبة لمزيد الإنكار كما أن تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {أَفِى الله شَكٌّ} [إبراهيم: 10] للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه، ويجوز أن يجعل ذلك من مستتبعات ادعائهم الباطل فإن الألوهية مقتضية للاستقلال بالإبداء والإعادة فحيث ادعوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادعوا لهم الاستقلال بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدعين لأصل الإنشار قاله المولى أبو السعود، وقال بعضهم: تقديم الضمير للتقوى، وما ذهب إليه من إفادته معنى التخصيص تبع فيه الزمخشري، وفي الكشف الداعي إلى ترجيحه على التقوى أنه ترشيح لما أبداه أولًا من أن الإلهية لا تصح دون القدرة على الإنشار ولا وجه لتجويز كونه فصلًا انتهى، وجوز أن تكون جملة {هُمْ يُنشِرُونَ} مستأنفة مقدرًا معها استفهام إنكاري لبيان علة إنكار الاتخاذ، ولعل مجوز ذلك لا يسلم لزوم كون معنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الوقوع ويجوز كونه إنكار الواقع، وتفسير {يُنشِرُونَ} بيبعثون هو المشهور وعليه الجمهور، وقال قطرب: هو عنى يخلقون.
وقرأ الحسن. ومجاهد {يُنشِرُونَ} بفتح الياء على أنه من نشر وهو وأنشر عنى وقد يجيء نشر لازمًا يقال أنشر الله تعالى الموتى فنشروا وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (22):

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)}
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} إبطال لتعدد الإله وضمير {فِيهِمَا} للسماء والأرض والمراد بهما العالم كله علوية وسفلية والمراد بالكون فيهما التمكن البالغ من التصرف والتدبير لا التمكن والاستقرار فيهما كما توهمه الفاضل الكلنبوي، والظرف على هذا متعلق بكان، وقال الطيبي: أنه ظرف لآلهة على حد قوله تعالى: {وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِى الأرض إله} [الزخرف: 84] وقوله سبحانه: {وَهُوَ الله فِي السموات وَفِى الأرض} [الأنعام: 3] وجعل تعلق الظرف بما ذكر هاهنا باعتبار تضمنه معنى الخالقية والمؤثرية.

وأنت تعلم أن الظاهر ما ذكر أولًا، و{إِلا} لمغايرة ما بعدها لما قبلها فهي نزلة غير، وفي المغني أنها تكون صفة نزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه ومثل للأول بهذه الآية، وقد صرح غير واحد من المفسرين أن المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله وجعل ذلك الخفاجي إشارة إلى أن {إِلا} هنا اسم عنى غير صفة لما قبلها وظهر إعرابها فيما بعدها لكونها على صورة الحرف كما في أل الموصولة في اسم الفاعل مثلًا.
وأنكر الفاضل الشمني كونها نزلة غير في الاسمية لما في حواشي العلامة الثاني عند قوله تعالى: {لاَّ فَارِضٌ} [البقرة: 68] من أنه لا قائل باسمية إلا التي نزلة غير ثم ذكر أن المراد بكونها نزلة غير أنها نزلتها في مغايرة ما بعدها لما قبلها ذاتًا أو صفة، ففي شرح الكافية للرضى أصل غير أن تكون صفة مفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها إما بالذات نحو مررت برجل غير زيد وإما بالصفة نحو دخلت بوجه غير الذي خرجت به، وأصل إلا التي هي أم أدوات الاستثناء مغايرة ما بعدها لما قبلها نفيًا أو إثباتًا فلما اجتمع ما بعد إلا وما بعد غير في معنى المغايرة حملت إلا على غير في الصفة فصار ما بعد إلا مغايرًا لما قبلها ذاتًا أو صفة من غير اعتبار مغايرته له نفيًا أو إثباتًا وحملت غير على إلا في الاستثناء فصار ما بعدها مغايرًا لما قبلها نفيًا أو إثباتًا من غير مغايرته له ذاتًا أو صفة إلا أن حمل غير على إلا أكثر من حمل إلا على غير لأن غير اسم والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف فلذلك تقع غير في جميع مواقع إلا انتهى.
وأنت تعلم أن المتبادر كون إلا حين إفادتها معنى غير اسمًا وفي بقائها على الحرفية مع كونها وحدها أو مع ما بعدها بجعلهما كالشيء الواحد صفة لما قبلها نظر ظاهر وهو في كونها وحدها كذلك أظهر، ولعل الخفاجي لم يقل ما قال إلا وهو مطلع على قائل باسميتها، ويحتمل أنه اضطره إلى القول بذلك ما يرد على القول ببقائها على الحرفية، ولعمري أنه أصاب المحز وإن قال العلامة ما قال، وكلام الرضي ليس نصًا في أحد الأمرين كما لا يخفى على المنصف ولا يصح أن تكون للاستثناء من جهة العربية عند الجمهور لأن {ءالِهَةً} جمع منكر في الإثبات ومذهب الأكثرين كما صرح به في التلويح أنه لا استغراق له فلا يدخل فيه ما بعدها حتى يحتاج لإخراجه بها وهم يوجبون دخول المستثنى في المستثنى منه في الاستثناء المتصل ولا يكتفون بجواز الدخول كما ذهب إليه المبرد وبعض الأصوليين فلا يجوز عندهم قام رجال إلا زيدًا على كون الاستثناء متصلًا وكذا على كونه منقطعًا بناءً على أنه لابد فيه من الجزم بعدم الدخول وهو مفقود جزمًا، ومن أجاز الاستثناء في مثل هذا التركيب كالمبرد جعل الرفع في الاسم الجليل على البدلية.
واعترض بعدم تقدم النفي، وأجيب بأن لو للشرط وهو كالنفي. وعنه أنه أجاب بأنها تدل على الامتناع وامتناع الشيء انتفاؤه وزعم أن التفريغ بعدها جائز وأن نحو لو كان معنا إلا زيد لهلكنا أجود كلام وخالف في ذلك سيبويه فإنه قال لو قلت لو كان معنا المثال لكنت قد أحلت.
ورد بأنهم لا يقولون لو جاءني ديار أكرمته ولا لو جاءني من أحد أكرمته ولو كانت نزلة النافي لجاز ذلك كما يجوز ما فيها ديار وما جاءني من أحد. وتعقبه الدماميني بأن للمبرد أن يقول: قد أجمعنا على إجراء أبي مجرى النفي الصريح وأجزنا التفريغ فيه قال الله تعالى: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 89]، وقال سبحانه: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] مع أنه لا يجوز أبى ديار المجيء وأبى من أحد الذهاب فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا.
وقال الرضي: أجاز المبرد الرفع في الآية على البدل لأن في لو معنى النفي وهذا كما أجاز الزجاج البدل في قوم يونس في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ} [يونس: 98] الآية إجراء للتحضيض مجرى النفي والأولى عدم إجراء ذينك في جواز الإبدال والتفريغ معهما مجراه إذ لم يثبت انتهى.
وذكر المالكي في شرح التسهيل أن كلام المبرد في المقتضب مثل كلام سيبويه وأن التفريغ والبدل بعد لو غير جائز، وكذا لا يصح الاستثناء من جهة المعنى ففي الكشف أن البدل والاستثناء في الآية ممتنعان معنى لأنه إذ ذاك لا يفيد ما سيق له الكلام من انتفاء التعدد ويؤدي إلى كون الآلهة بحيث لا يدخل في عدادهم إلا له الحق مفض إلى الفساد فنفي الفساد يدل على دخوله فيهم وهو من الفساد كان ثم أن الصفة على ما ذهب إليه ابن هشام مؤكدة صالحة للإسقاط مثلها في قوله تعالى: {نَفْخَةٌ واحدة} [الحاقه: 13] فلو قيل لو كان فيهما آلهة لفسدتا لصح وتأتى المراد. وقال الشلوبين. وابن الصائغ: لا يصح المعنى حتى تكون إلا عنى غير التي يراد بها البدل والعوض، ورد بأنه يصير المعنى حينئذٍ لو كان فيهما عدد من الآلهة بدل وعوض منه تعالى شأنه لفسدتا وذلك يقتضي فهومه أنه لو كان فيهما اثنان هو عز وجل أحدهما لم تفسدا وذلك باطل.
وأجيب بأن معنى الآية حينئذٍ لا يقتضي هذا المفهوم لأن معناها لو كان فيهما عدد من الآلهة دونه أو به سبحانه بدلًا منه وحده عز وجل لفسدتا وذلك مما لا غبار عليه فاعرف. والذي عليه الجمهور إرادة المغايرة، والمراد بالفساد البطلان والاضمحلال أو عدم التكون، والآية كما قال غير واحد مشيرة إلى دليل عقلي على نفي تعدد الإله وهو قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم فكأنه قيل لو تعدد الإله في العالم لفسد لكنه لم يفسد ينتج أنه لم يتعدد الإله. وفي هذا استعمال للو غير الاستعمال المشهور.
قال السيد السند: إن لو قد تستعمل في مقام الاستدلال فيفهم منها ارتباط وجود التالي بوجود المقدم مع انتفاء التالي فيعلم منه انتفاء المقدم وهو على قلته موجود في اللغة يقال: لو كان زيد في البلد لجاءنا ليعلم منه أنه ليس فيه، ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءالِهَةً *إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا}: وقال العلامة الثاني: إن أرباب المعقول قد جعلوا لو أداة للتلازم دالة على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفائهما ولهذا صح عندهم استثناء عين المقدم فهم يستعملونها للدلالة على أن العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات إلى أن علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي لأنهم يستعملونها في القياسات لاكتساب العلوم والتصديقات ولا شك أن العلم بانتفاء الملزوم لا يوجب العلم بانتفاء اللازم بل الأمر بالعكس وإذا تصفحنا وجدنا استعمالها على قاعدة اللغة أكثر لكن قد تستعمل على قاعدتهم كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} إلخ لظهور أن الغرض منه التصديق بانتفاء تعدد الآلهة لا بيان سبب انتفاء الفساد اه. وفيه بحث يدفع بالعناية، ولا يخفى عليك أن لبعض النحويين نحو هذا القول فقد قال الشلوبين. وابن عصفور إن لو لمجرد التعليق بين الحصولين في الماضي من غير دلالة على امتناع الأول والثاني كما أن إن لمجرد التعليق في الاستقبال والظاهر أن خصوصية المضي هاهنا غير معتبرة.
وزعم بعضهم: أن لو هنا لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما هو المشهور فيها ويتم الاستدلال ولا يخفى ما فيه على من دق النظر، ثم إن العلامة قال في «شرح العقائد»: إن الحجة إقناعية والملازمة عادية على ما هو اللائق بالخطابيات فإن العادة جارية بوقوع التمانع والتغالب عند تعدد الحاكم وإلا فإن أريد الفساد بالفعل أي خروجهما عن هذا النظام المشاهد فمجرد التعدد لا يستلزمه لجواز الافتقا على هذا النظام وإن أريد إمكان الفساد فلا دليل على انتفائه بل النصوص شاهدة بطي السموات ورفع هذا النظام فيكون لا محالة.
وكذا لو أريد بفسادهما عدم تكونهما عنى أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع في الأفعال فلم يكن أحدهما صانعًا فلم يوجد مصنوع لا تكون الملازمة قطعية لأن إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع على أنه يرد منع الملازمة إن أريد عدم التكون بالفعل ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان انتهى. فنفى أن تكون الآية برهانًا سواء حمل الفساد على الخروج عن النظام أو على عدم التكون، وفيه قدح لما أشار إليه في شرح المقاصد من كون كونها برهانًا على الثاني فإنه بعد ما قرر برهان التمانع قال: وهذا البرهان يسمى برهان التمانع وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ} الآية فإن أريد عدم التكون فتقريره أن يقال: لو تعدد الآلهة لم تتكون السماء والأرض لأن تكونهما إما جموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما والكل باطل أما الأول فلأن من شأنه الإله كمال القدرة وأما الأخيران فلما مر من التوارد والرجحان من غير مرجح، وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام فتقريره أن يقال: إنه لو تعددت الإله لكان بينهما التنازع والتغالب وتمييز صنيع كل منهما عن الآخر بحكم اللزوم العادي فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام الذي باعتباره صار الكل نزلة شخص واحد ويختل أمر النظام الذي فيه بقاء الأنواع وترتب الآثار انتهى، وذلك القدح بأن يقال: تعدد الإله لا يستلزم التمانع بالفعل بطريق إرادة كل منهما وجود العالم بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخرة بل إمكان ذلك التمانع والإمكان لا يستلزم الوقوع فيجوز أن لا يقع بل يتفقان على الإيجاد بالاشتراك أو يفوض أحدهما إلى الآخر؛ وبحث فيه المولى الخيالي بغير ذلك أيضًا ثم قال: التحقيق في هذا المقام أنه إن حملت الآية الكريمة على نفي تعدد الصانع مطلقًا فهي حجة إقناعية لكن الظاهر من الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض إذ ليس المراد من الكون فيهما التمكن فيهما بل التصرف والتأثير فالحق أن الملازمة قطعية إذ التوارد باطل فتأثيرهما إما على سبيل الاجتماع أو التوزيع فيلزم انعدام الكل أو البعض عند عدم كون أحدهما صانعًا لأنه جزء علة أو علة تامة فيفسد العالم أي لا يوجد هذا المحسوس كلًا أو بعضًا، ويمكن أن توجه الملازمة بحيث تكون قطعية على الإطلاق وهو أن يقال: لو تعدد الإله لم يكن العالم ممكنًا فضلًا عن الوجود وإلا لأمكن التمانع بينهما المستلزم للمحال لأن إمكان التمانع لازم لمجموع الأمرين من التعدد وإمكان شيء من الأشياء فإذا فرض التعدد يلزم أن لا يمكن شيء من الأشياء حتى لا يمكن التمانع المستلزم للمحال انتهى.
وأورد الفاضل الكلنبوي على الأول خمسة أبحاث فيها الغث والسمين ثم قال: فالحق أن توجيهه الثاني لقطعية الملازمة صحيح دون الأول، وللعلامة الدواني كلام في هذا المقام قد ذكر الفاضل المذكور ماله وما عليه من النقض والإبرام، ثم ذكر أن للتمانع عندهم مغنيين، أحدهما: إرادة أحد القادرين وجود المقدور والآخر عدمه وهو المراد بالتمانع في البرهان المشهور ببرهان التمانع، وثانيهما: إرادة كل منهما إيجاد بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخرة فيه وهو التمانع الذي اعتبروه في امتناع مقدور بين قادرين، وقولهم: لو تعدد الإله لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادرين وإما لترجيح بلا مرجح مبني على هذا، وحاصل البرهان عليه أنه لو وجد إلهان قادران على الكمال لأمكن بينهما تمانع واللازم باطل إذ لو تمانعا وأراد كل منهما الإيجاد بالاستقلال يلزم إما أن لا يقع مصنوع أصلًا أو يقع بقدرة كل منهما أو بأحدهما والكل باطل ووقوعه جموع القدرتين مع هذه الإرادة يوجب عجزهما لتخلف مراد كل منهما عن إرادته فلا يكونان إلهين قادرين على الكمال وقد فرضا كذلك؛ ومن هنا ظهر أنه على تقدير التعدد لو وجد مصنوع لزم إمكان أحد المحالين إما إمكان التوارد وإما إمكان الرجحان من غير مرجح والكل محال، وبهذا الاعتبار مع حمل الفساد على عدم الكون قيل بقطعية الملازمة في الآية فهي دليل إقناعي من وجه ودليل قطعي من وجه آخر والأول بالنسبة إلى العوام والثاني بالنبة إلى الخواص، وقال مصلح الدين اللاري بعد كلام طويل وقال وقيل أقول أقرر الحجة المستفادة من الآية الكريمة على وجه أوجه مما عداه وهو أن الإله المستحق للعبادة لابد أن يكون واجب الوجود، وواجب الوجود وجوده عين ذاته عند أرباب التحقيق إذ لو غايره لكان ممكنًا لاحتياجه في موجوديته إلى غيره الذي هو الوجود فلو تعدد لزم أن لا يكون وجودًا فلا تكون الأشياء موجودة لأن موجودية الأشياء بارتباطها بالوجود فظهر فساد السماء والأرض بالمعنى الظاهر لا عنى عدم التكون لأنه تكلف ظاهر انتهى.
وأنت تعلم أن إرادة عدم التكون أظهر على هذا الاستدلال، ثم إن هذا النحو من الاستدلال مما ذهب إليه الحكماء بل أكثر براهينهم الدالة على الوحيد الذي هو أجل المطالب الإلهية بل جميعها يتوقف على أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت القائم بذاته المعبر عنه بالوجوب الذاتي والوجود المتأكد وإن ما يعرضه الوجوب أو الوجود فهو في حد نفسه ممكن ووجوده كوجوبه يستفاد من الغير فلا يكون واجبًا ومن أشهرها أنه لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود ومتغايرين بأمر من الأمور وإلا لم يكونا اثنين، وما به الامتياز إما أن يكون تمام الحقيقة أو جزءها لا سبيل إلى الأول لأن الامتياز لو كان بتمام الحقيقة لكان وجوب الوجود المشترك بينهما خارجًا عن حقيقه كل منهما أو عن حقيقة أحدهما وهو محال لما تقرر من أن وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود لذاته، ولا سبيل إلى الثاني لأن كل واحد منهما يكون مركبًا مما به الاشتراك وما به الامتياز وكل مركب محتاج فلا يكون واجبًا لإمكانه فيكون كل من الواجبين أو أحدهما ممكنًا لذاته هذا خلف، واعترض بأن معنى قولهم وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود أنه يظهر من نفس تلك الحقيقة أثر صفة وجوب الوجود لا أن تلك الحقيقة عين هذه الصفة فلا يكون اشتراك موجودين واجبي الوجود في وجوب الوجود إلا أن يظهر من نفس كل منهما أثر صفة الوجوب فلا منافاة بين اشتراكهما في وجوب الوجود وتمايزهما بتمام الحقيقة، وأجيب بأن المراد العينية، ومعنى قولهم أن وجوب الوجود عين حقيقة الواجب هو أن ذاته بنفس ذاته مصداق هذا الحكم ومنشأ انتزاعه من دون انضمام أمر آخر ومن غير ملاحظة حيثية أخرى غير ذاته تعالى أية حيثية كانت حقيقية أو إضافية أو سلبية، وكذلك قياس سائر صفاته سبحانه عند القائلين بعينيتها من أهل التحقق، وتوضيح ذلك على مشربهم أنك كما قد تعقل المتصل مثلًا نفس المتصل كالجزء الصوري للجسم من حيث هو جسم وقد تعقل شيئًا ذلك الشيء هو المتصل كالمادة فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئًا ذلك الشيء هو واجب الوجود ومصداق الحكم به ومطابقه في الأول حقيقة الموضوع وذاته فقط، وفي الثاني هي مع حيثية أخرى هي صفة قائمة بالموضوع حقيقية أو انتزاعية وكل واجب الوجود لم يكن نفسه واجب الوجود بل يكن له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجبة الوجود ففي اتصافها تحتاج إلى عروض هذا الأمر وإلى جاعل يجعلها بحيث ينتزع منها هذا الأمر فهي في حد ذاتها ممكنة الوجود وبه صارت واجب الوجود فلا تكون واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته وليقس على ذلك سائر صفاته تعالى الحقيقية الكمالية كالعلم والقدرة وغيرهما.
واعترض أيضًا بأنه لم لا يجوز أن يكون ما به الامتياز أمرًا عارضًا لا مقومًا حتى يلزم التركيب. وأجيب بأن ذلك يوجب أن يكون التعين عارضًا وهو خلاف ما ثبت بالبرهان، ولابن كمونة في هذا المقام شبهة شاع أنها عويصة الدفع عسيرة الحل حتى أن بعضهم سماه لا بدائها بافتخار الشياطين وهي أنه لم لا يجوز أن يكون هناك هويتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهية كل منهما واجبًا بذاته ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعًا منهما مقولًا عليها قولًا عرضيًا، وقد رأيت في ملخص الإمام عليه الرحمة ونحوها.
ولعلك إذا أحطت خبرًا بحقيقة ما ذكرنا يسهل عليك حلها وإن أردت التوضيح فاستمع لما قيل في ذلك إن مفهوم واجب الوجود لا يخلو إما أن يكون انتزاعه عن نفس ذات كل منهما من دون اعتبار حيثية خارجة أية حيثية كانت أو مع اعتبار تلك الحيثية وكلا الشقين محال، أما الثاني فلما تقرر أن كل ما لم يكن ذاته مجرد حيثية انتزاع الوجوب فهو ممكن في ذاته، وأما الأول فلأن مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات مع قطع النظر عن أية حيثية كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلًا، ولعل كل سليم الفطرة يحكم بأن الأمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثية جامعة لا تكون مصداقًا لحكم واحد ومحكيًا عنها به نعم يجوز ذلك إذا كانت تلك الأمور متماثلة من جهة كونه متماثلة ولو في أمر سلبي بل نقول لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجودي المصدري المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أدانا النظر والبحث إلى أن حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحق الوجود المطلق الذي لا يشوبه عموم ولا خصوص ولا تعدد إذ كل ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضًا هذا الوجود فرضًا مباينة أصلًا ولا تغاير فلا يكون إثنان بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد كما لوح إليه صاحب التلويحات بقوله صرف الوجود الذي لا أتم منه كلما فرضته ثانيًا فإذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء فوجوب وجوده تعالى الذي هو ذاته سبحانه تدل على وحدته جل وعلا انتهى فتأمل.
ولا يخفى عليك أن أكثر البراهين على هذا المطلب الجليل الشأن يمكن تخريج الآية الكرمية عليه ويحمل حينئذ الفساد على عدم التكون فعليك بالتخريج وإن أحوجك إلى بعض تكلف وإياك أن تقنع بجعلها حجة إقناعية كما ذهب إليه كثير فإن هذا المطلب الجليل أجل من أن يكتفي فيه بالإقناعات المبنية على الشهرة والعادة، ولصاحب الكشف طاب ثراه كلام يلوح عليه مخايل التحقيق في هذا المقام سنذكره إن شاء الله تعالى كما اختاره في تفسير قوله تعالى: {إِذْ لَّذَهَبَ كُلُّ إله بما خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ}
[المؤمنون: 91] ثم لا تتوهمن أنه لا يلزم من الآية نفي الإثنين والواحد لأن نفي آلهة تغاير الواحد المعين شخصًا يستلزم بالضرورة إن كل واحد واحد منهم يغايره شخصًا وهو أبلغ من نفي واحد يغاير المعين في الشخص على أنه طوبق به قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض} وقيام الملازمة كاف في نفي الواحد والإثنين أيضًا. واستشكل سياق الآية الكريمة بأن الظاهر أنها إنما سيقت لإبطال عبادة الأصنام المشار إليه بقوله تعالى: {أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ} [الأنبياء: 21] لذكرها بعده، وهي لا تبطل إلا تعدد الإله الخالق القادر المدبر التام الألوهية وهو غير متعدد عند المشركين، {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ مِنْ خلاق السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] وهم يقولون في آلهتهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3] فما قالوا به لا تبطله الآية؛ وما تبطله الآية لم يقولوا به ومن هنا قيل معنى الآية لو كان في السماء والأرض آلهة كما يقول عبدة الأوثان: لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم، وأجيب بأن قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا} [الأنبياء: 21] إلخ مسوق للزجر عن عبادة الأصنام وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك وبعد الزجر عن ذلك أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا واحدًا على أن شرح اسم الإله هو الواجب الوجود لذاته الحي العالم المريد القادر الخالق المدبر فمتى أطلقوه على شيء لزمهم وصفهم بذلك شاؤا أو أبوا فالآية لإبطال ما يلزم قولهم على أتم وجه {فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي نزهوه أكمل تنزيه عن أن يكون من دونه تعالى إلهة كما يزعمون فالفاء لترتيب ما بعده على ما قبلها من ثبوت الوجدانية، وإبراز الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية مناط لجميع صفات الكمال التي من جملتها تنزهه تعالى عن الشركة ولتربية المهابة وإدخال الروعة، والوصف برب العرش لتأكيد التنزه مع ما في ذلك من تربية المهابة، والظاهر أن المراد حقيقة الأمر بالتنزيه، وقيل: المراد بالتعجيب ممن عبد تلكم المعبودات الخسيسة وعدها شريكًا مع وجود المعبود العظيم الخالق لأعظم الأشياء، والكلام عليه أيضًا كالنتيجة لما قبله من الدليل وقوله تعالى: